فصل: تفسير الآية رقم (67):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (65):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإنجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [65].
{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ} أي: تجادلون فيه فيدعيه كل من فريقكم: {وَمَا أُنزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإنجِيلُ} أي: المقرر كل منهما لأصل دين منتحله منكم: {إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} حتى لا تجادلوا مثل هذا الجدل المحال.

.تفسير الآية رقم (66):

القول في تأويل قوله تعالى: {هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [66].
{هَاأَنتُمْ هَؤُلاء} أي: الأشخاص الحمقى: {حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ} من أمر محمد صلى الله عليه وسلم؛ إذ له ذكر في كتابكم، فأمكنكم تغييره لفظاً ومعنى، أو من أمر موسى وعيسى عليهما السلام، أو مما نطق به التوراة والإنجيل: {فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ} من أمر إبراهيم لكونه لم يذكر في كتابكم بما حاججتم، فلا يمكنكم فيه التغيير: {وَاللّهُ يَعْلَمُ} فيبينه لنبيه: {وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}.

.تفسير الآية رقم (67):

القول في تأويل قوله تعالى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [67].
{مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً} أي: كما ادعى اليهود: {وَلاَ نَصْرَانِيّاً} كما ادعى النصارى: {وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً} سبق معنى الحنيف عند قوله تعالى: {بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} في البقرة: {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} تعريض بأنهم مشركون بقولهم: عزير ابن الله، والمسيح ابن الله، ورد لادعاء المشركين أنهم على ملة إبراهيم عليه السلام.

.تفسير الآية رقم (68):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [68].
{إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ} أي: أخصهم به وأقربهم منه، من الولي وهو القرب: {لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} أي: في دينه من أمته وغيرهم: {وَهَذَا النَّبِيُّ} يعني خاتم الأنبياء محمداً صلى الله عليه وسلم: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ} به فعملوا بشريعته الموافقة لشريعة إبراهيم: {وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} بالنصر والمعونة والمحبة.

.تفسير الآية رقم (69):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَدَّت طَّائفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [69].
{وَدَّت} أي: تمنت: {طَّائفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ} بالرجوع إلى دينهم حسداً وبغياً: {وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ} أي: وما يتخطاهم الإضلال، ولا يعود وباله إلا عليهم، إذ يضاعف به عذابهم: {وَمَا يَشْعُرُونَ} أي: أن وزره خاص بهم. ونظير هذه الآية قوله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} [البقرة: 109] وقوله: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء: 89].

.تفسير الآية رقم (70):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ} [70].
{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ} أي: المنزلة على محمد صلى الله عليه وسلم: {وَأَنتُمْ تَشْهَدُون} أي: تعلمون حقيقتها.

.تفسير الآية رقم (71):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [71].
{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} أي: تسترون الحق المنزل بتمويهاتكم الباطلة: {وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ} أي: الذي لا يقبل تمويهاً ولا تحريفاً: {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي: عالمين بما تكتمونه من حقّيته وقد كانوا يعلمون ما في التوراة والإنجيل من البشارة برسول الله صلى الله عليه وسلم ونبوته، ويلبسون على الناس في ذلك، كدأبهم في غيره. وفي الآية دلالة على قبح كتمان الحق، فيدخل في ذلك أصول الدين وفروعه والفتيا والشهادة. وعلى قبح التلبيس. فيجب حل الشبهة وإبطالها.

.تفسير الآية رقم (72):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالَت طَّائفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [72].
{وَقَالَت طَّائفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ} أي: أوله: {وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} هذه الآية حكاية لنوع آخر من تلبيساتهم. وهي مكيدة أرادوها ليلبسوا على الضعفاء من المؤمنين أمر دينهم، وهو أنهم اشتوروا بينهم أن يظهروا الإيمان أول النهار ويصلّوا مع المسلمين، فإذا جاء آخر النهار ارتدوا إلى دينهم. فيظن الضعفاء أنه لا غرض لهم إلا الحق، وأنه ما ردهم عن الدين بعد اتباعهم له وترك العناد، وهم أولو علم وأهل كتاب، إلا ظهور بطلانه لهم، ولهذا قال: {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أي: عن الإسلام كما رجعتم.
لطيفة:
قال الرازي: الفائدة في إخبار الله تعالى عن تواطئهم على هذه الحيلة من وجوه:
الأول: أن هذه الحيلة كانت مخيفة فيما بينهم وما أطلعوا عليها أحداً من الأجانب، فلما أخبر الرسول عنها كان ذلك إخباراً عن الغيب فيكون معجزاً.
الثاني: أنه تعالى لما أطلع المؤمنين على تواطئهم على هذه الحيلة لم يحصل لها أثر في قلوب المؤمنين، ولولا هذا الإعلام لكان ربما أثرت في قلب بعض من في إيمانه ضعف.
الثالث: أن القوم لما افتضحوا في هذه الحيلة صار ذلك رادعاً لهم عن الإقدام على أمثالها من الحيل والتلبيس.

.تفسير الآية رقم (73):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللّهِ أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [73].
{وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ} من تتمة كلامهم، أي: ولا تصدقوا إلا نبياً تابعاً لشريعتكم، لا من جاء بغيرها، أو ولا تؤمنوا ذلك الإيمان المتقدم، وهو إيمانهم وجه النهار، إلا لأجل حفظ أتباعكم وأشياعكم وبقائهم على دينكم: {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللّهِ} أي: الذي هو الإسلام وقد جئتكم به، وما عداه ضلال، فلا ينفعكم في دفعه هذا الكيد الضعيف ولا تقدرون على إضلال أحد منا بعد أن هدانا الله. ثم وصل به تقريعهم فقال: {أَنْ} بمد الألف على الاستفهام، في قراءة ابن كثير. وتقديرها في قراءة غيره، أي: دعاكم الحسد والبغي حتى قلتم ما قلتم ودبرتموه الآن: {يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ} من الشرائع والعلم والكتاب: {أَوْ} كراهة أن: {يُحَآجُّوكُمْ} أي: الذين أوتوا مثل ما أوتيتم: {عِندَ رَبِّكُمْ} أي: بالشهادة عليكم يوم القيامة أنهم آمنوا وكفرتم بعد البيان الواضح فيفضحكم: {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ} أي: بإنزال الآيات وغيرها: {بِيَدِ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء} فلا يمكنكم منعه: {وَاللّهُ وَاسِعٌ} كثير العطاء: {عَلِيمٌ}.

.تفسير الآية رقم (74):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [74].
{يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء} فيزيده فضلاً عليكم: {وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}.

.تفسير الآية رقم (75):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [75].
{وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائماً} بالمطالبة والترافع وإقامة البينة، فلا يبعد منه الخيانة مع الله بكتمان ما أمره بإظهاره طمعاً في إبقاء الرئاسة والرشا عليه. ثم استأنف علة الخيانة بقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} أي: ذلك الاستحلال والخيانة هو بسبب أنهم يقولون: ليس علينا فيما أصبنا من أموال العرب عقاب ومؤاخذة فهم يخونون الخلق: {وَيَقُولُونَ} أي: في الاعتذار عنه: {عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ} بادعائهم ذلك وغيره، فيخونونه أيضاً: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أنه كذب محض وافتراء لتحريم الغدر عليهم. كما هو في التوراة. وقد مضى نقله في البقرة في آية: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا} [البقرة: 62]. فارجع إليه.

.تفسير الآية رقم (76):

القول في تأويل قوله تعالى: {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [76].
{بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} اعلم أن بلى إما لإثبات ما نفوه من السبيل عليهم في الأميين، أي: بلى عليهم سبيل، فالوقف حينئذ على بلى وقف التمام، وقوله: {مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ} جملة مقررة للجملة التي سدت بلى مسدها. وإما لابتداء جملة بلا ملاحظة كونها جواباً للنفي السابق، فإن كلمة بلى قد تذكر ابتداء لكلام آخر يذكر بعدها- كما نقله الرازي- وهذا هو الذي أرتضيه. وإن اقتصر الكشاف ومقلدوه على الأول. وقد ذكروا في نعم أنها تأتي لتوكيد إذا وقعت صدراً. نحو: نعم هذه أطلالهم، فلتكن بلى كذلك، فإنهما أخوان، وإن تخالفا في صور، وعلى هذا فلا يحسن الوقف على بلى. والضمير في: {بِعَهْدِهِ} إما لاسم الله في قوله: {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} على معنى: إن كل من أوفى بعهد الله واتقاه في ترك الخيانة والغدر فإن الله يحبه. وإما لـ: {مَنْ أَوْفَى} على أن كل من أوفى بما عاهد عليه واتقاه فإنه يحبه.
قال الزمخشري: فإن قلت فهذا عام، يخيل أنه ولو وفى أهل الكتاب بعهودهم وتركوا الخيانة لكسبوا محبة الله.
قلت: أجل لأنهم إذا وفوا بالعهود، وفوا أول شيء بالعهد الأعظم وهو ما أخذ عليهم في كتابهم من الإيمان برسول مصدق لما معهم، ولو اتقوا الله في ترك الخيانة لاتقوه في ترك الكذب على الله وتحريف كلمه. انتهى.

.تفسير الآية رقم (77):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [77].
{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ} أي: يستبدلون: {بِعَهْدِ اللّهِ} أي: بما أخذهم عليه في كتابه، أو بما عاهدوه عليه من الإيمان بالرسول المصدق لما معهم: {وَأَيْمَانِهِمْ} أي: التي عقدوها بالتزام متابعة الحق على ألسنة الرسل: {ثَمَناً قَلِيلاً} من الدنيا الزائلة الحقيرة التي لا نسبة لجميعها إلى أدنى ما فوتوه: {أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ} أي: لا نصيب ثواب: {لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} وذلك لحجبهم عن مقامات قربه كما قال تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} {وَلاَ يُزَكِّيهِمْ} أي: ولا يثني عليهم كما يثني على أوليائه، أو لا يطهرهم من دنس ذنوبهم بالمغفرة: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي: بالنار. واعلم أن في هذه الآية مسائل:
الأولى: قال بعض مفسري الزيدية: ثمرة الآية أن من نقض عهداً لله لغرض دنيوي، أو حلف كاذباً، فإنه قد ارتكب كبيرة.
الثانية: في الجمع بين قوله تعالى هنا: {وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ}. وقوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 92]. قال القفال: المقصود من هذه الآية بيان شدة سخط الله عليهم، لأن من منع غيره كلامه فإنما ذلك بسخطٍ عليه، وإذا سخط إنسان على آخر قال له: لا أكلمك. وقد يأمر بحجبه عنه، ويقول: لا أرى وجه فلان، وإذا جرى ذكره لم يذكره بالجميل، فثبت أن الآية كناية عن شدة الغضب، نعوذ بالله منه. ومنهم من قال: لا يبعد أن يكون إسماع الله جل جلاله أولياءه كلامه بغير سفير تشريفاً عالياً يختص به أولياءه. ولا يكلم هؤلاء الكفرة والفساق، وتكون المحاسبة معهم بكلام الملائكة. ومنهم من قال: معنى الآية لا يكلمهم بكلام يسرهم وينفعهم، والكل حسن.
الثالثة: روى الشيخان عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من حلف على مال امرئ مسلم بغير حقه لقي الله وهو عليه غضبان». قال عبد الله: ثم قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مصداقه من كتاب الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} إلى آخر الآية. وفي رواية قال: «من حلف على يمين صبر ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان» فأنزل الله تصديق ذلك: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} الآية. فدخل الأشعث بن قيس الكندي فقال: ما يحدثكم أبو عبد الرحمن؟ قلنا: كذا وكذا، فقال: صدق، فيّ نزلت، كان بيني وبين رجل خصومة في بئر، فاختصمنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «شاهداك أو يمينه».
قلت: إنه إذاً يحلف ولا يبالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان» ونزلت: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} إلى آخر الآية.
وأخرجه الترمذي وأبو داود وقالا: إن الحكومة كانت بين الأشعث وبين رجل يهودي.
وروى البخاري عن عبد الله بن أبي أوفى أن رجلاً أقام سلعة وهو في السوق، فحلف بالله: لقد أعطى بها ما لم يعطه، ليوقع فيها رجلاً من المسلمين، فنزلت: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} إلى آخر الآية. وقدمنا في مقدمة التفسير، في بحث سبب النزول، وفي سورة البقرة أيضاً عند آية: {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ} [البقرة: 97]، ما يعلم به الجمع بين مثل هذه الروايات، وأنه لا تنافي. فتذكّر.